المجلة الاجتماعية العدد 102

102

تحميل الملف الكامل هنا

1200px-PDF_file_icon.svg
تأتي العلوم الإنسانية والاجتماعية في الدائرة الأولى لاهتمامات مجلة شؤون اجتماعية، ومن هنا فإن هناك كثيرا من الباحثين يرون أن الأزمة المالية والاقتصادية العالمية الحادة التي تعرض لها عالمنا المعاصر في الأشهر الأخيرة من العام المنصرم والأشهر الأولى من هذه السنة لا تدخل ضمن اختصاصاتها وأولوياتها، لأن تلك الأزمة أقرب إلى عالم المال والأعمال والاقتصاد، والذي له مختصوه، أكثر من قربها من علم الاجتماع والعلوم الإنسانية التي تعنى بها مجلتنا.  الا أن تلك الأزمة بتفاعلاتها وعمق تأثيرها هي أزمة اجتماعية بالتأكيد، فقد تضاعف في ظلها عدد العاطلين عن العمل حتى وصل إلى ما يربو على 240 مليون عاطل عن العمل، ووصل عدد الجياع في العامل إلى المليار إنسان، مع احتمال أن يزداد هذا العدد في الأشهر القليلة القادمة، بالإضافة إلى تأثيرها على حقوق الملايين من الأطفال في التعليم والصحة، مما أدخلها ضمن اهتمامات علم الاجتماع بصورة ملحة، لأنها تركت بصمتها على جميع مناحي الحياة، وأثقلت بآثارها على تلك الملايين من البشر، سواء أولئك الذين باتوا عاطلين عن العمل، أو الذين شحت مواردهم، مما عرض حياتهم لمخاطر شديدة، أدخلتهم في عالم البؤس والبطالة وفقدان الموارد.  قبل الأزمة لم  يكن هناك من يجرؤ على الكلام، عن وضع الاقتصاد العالمي المأزوم، فمنظرو الرأسمالية والاقتصاد الحر أذهلوا العالم بالتبشير بإنجازات هذا الاقتصاد، وأغرقوه بالحديث عن مآثر العولمة، وطالبوا  (وبإصرار ) أن تقبل دول العالم كافة بشروط البنك الدولي وصندوق النقد الدولي على سياساتهم الاقتصادية والاجتماعية حتى ينعموا بدخول بوابة فردوس هذا الاقتصاد!!!.
لم يكن أحد يسمع الأصوات المبحوحة التي تشير إلى الآثار الموجعة لسياسات وشروط البنك  الدولي وصندوق النقد الدولي بفرض الخصخصة على اقتصادات كثير من دول العالم، لا سيما  دول العالم الثالث، والغاء سياسات الدعم والحماية، التي كانت تحظى بها بعض الفئات الفقيرة   والمعوزة في تلك الدول، كما لم يكن من حق أحد أن يأسف على أوضاع تلك الأسر التي تتعرض حياتها للخطر، لأن الفقراء هم الذين يتحملون مسؤولية فقرهم!!!، كان الاهتمام كله منصبا على الميزانيات الزائفة التي تصدر في نهاية كل سنة، والتي تحفل بأرباح الشركات التي تتحكم في اقتصاد العالم وإعلامه وحتى مفكريه، والتي تبلغ عشرات المليارات من الدولارات.
في ظل هذه السياسات تراجع علم الاقتصاد الاجتماعي ، ولم يعد له بريقه وتأثيره ، وتضاءل دوره، ولم يهتم أحد في أن يعطى علم الاجتماع الاقتصادي دوره في البحث في حركة المجتمع والعلاقات بين مكوناته، وأن يؤخذ البعد الاجتماعي لاقتصاد بعين الاعتبار عند رسم السياسة المالية والاقتصادية لهذه الدولة أو تلك.
علم الاجتماع اليوم، وفي ظل تداعيات الأزمة الراهنة، مدعو لأن يأخذ دوره من جديد، أن يستخلص علماء الاجتماع التجارب والعبر من نتائج التجربة المريرة لاقتصاد الحر، والتي لم يستطع أعتى عتاة هذا الاقتصاد أن يدافعوا عنها. أن يتعرفوا أكثر فأكثر على الآثار التي أحاقت بالفئات الهاشمية والمعدمة، وأن يضعوا القواعد التي تؤسس لعالم جديد أكثر عدلا ، لعالم جديد لا يتم النظر فيه بعين واحدة، ولا تراعى فيه إلا مصلحة فئة واحدة، هي مصلحة الطبقة التي تتربع على قمة الاقتصاد العالمي، وتحصد مليارات الدولارات سنويا دونما نظر إلى  الأطفال الذين يحرمون من التعليم والصحة وأدنى متطلبات الحياة..
إن علماء الاجتماع في العالم أجمع مطالبون اليوم أكثر من أي وقت مضى لإعادة النظر في النظريات الاجتماعية، وعوامل تطور المجتمعات الإنسانية، ودور الوعي الاجتماعي في المشاركة في صياغة السياسات الاقتصادية، وإيجاد نظام اقتصادي عادل يراعي مصلحة الفئات الهاشمية والضعيفة ويوفر الحماية الاجتماعية لها، وعدم ترك التحكم في تلك السياسات بأيدي مديري الشركات والمصارف والمؤسسات المالية، الذين لا ينظرون إلى الاقتصاد إلا بقدر المكافأة التي تصب في جيوبهم في نهاية كل سنة إن العالم مطالب الآن باقتصاد سوق اجتماعي، يراعي البعد الاجتماعي والإنساني ويكون للدولة دور في مراقبته والتدخل فيه، مما يسهم في إنقاذ ملايين البشر من الجوع، ويخفف الآثار المدمرة للأزمة الحالية على أوضاعهم وأنماط حياتهم، وعلماء الاجتماع هم الأقدر على وضع الأطر الإنسانية والاجتماعية لهذا الاقتصاد.  وإن من مسؤولية مجلة شؤون اجتماعية وغيرها من المجلات التي تعنى بالعلوم الإنسانية والاجتماعية في الوطن العربي وفي العالم، أن تفتح صفحاتها للدراسات الاجتماعية والإنسانية التي تنظر في مستقبل العلوم الاجتماعية ودورها في صياغة اقتصاد اجتماعي جديد، يراعي الجوانب الإنسانية للاقتصاد، ويعمل من أجل عولمة جديدة، يكون للجانب الانساني دور فيها لقد طالب الكثير من الاجتماعيين في العقد الماضي بمثل هذه العولمة، ولكن لم يكن لصوتهم صدى، ونعتقد أن العالم اليوم أصبح  أكثر تقبلا لوجهات نظر الاجتماعيين الذين يمكن أن يساهموا في صنع عالم أكثر عدلا و إنسانية..